دعت الحاجة إلى بلورة نظام محكمة النقض المدنية لتتولى الإشراف على توحيد القانون والسهر على حسن تطبيقه، والكشف عن مدى القصور في القوانين ذاتها لسبب بسيط هو أن النص كثيراً ما يكون من عمل الذهن المجرد، ولا بد أن يجد ويصادف له (ما صدق) من الواقع.
وبالتالي فهذا الأمر لا بد أن يوسد إلى عضو مؤسس يضطلع بهذه المهمة
وإذا كان هذا الحامل الواقع والعملي والمنطقي مدعاة لنشوء نظام النقض على صعيد القانون المدني، فهذه المبررات ذاتها شقت طريقها على صعيد القانون الإداري انعكاساً واستجابة لطبائع الأشياء والنسب المركوزة فيها، وبالتالي فنظام النقض الإداري لم يكن مجرد استعارة ميكانيكية آلية من نظام النقض المدني، وإنما تعبر عن ماهيته الروابط الإدارية وطبيعتها الذاتية، ومن ثم فإذا عمد القاضي الإداري إلى تطبيق إحدى قواعد القانون الخاص، فهو لا يفسر ذلك الوضع على أساس وجود نقص أو ثغرة في القانون الإداري يعمل القاضي على سدها بقاعدة قانونية من قواعد القانون الخاص.
وإنما يفسره على أنه تطبيق للقاعدة القانونية في نطاقها الطبيعية، وفي هذا الصدد يقول الفقيه اليوناني ستاسينوبولس: ((توجد صور قانونية عامة مقررة في كل التشريعات الحديثة، هذه الصور بصرف النظر عن النظام القانوني الذي تنتمي إليه تطبق على الحالات التي تتلاءم معها، سواء أكانت تنطوي تحت لواء القانون الخاص أم القانون العام)).
ويضرب ستاسينوبولس أمثلة لتوضيح رأيه فيذكر فكرة العقد أو فكرة العمل غير المشروع وضرورة التعويض عنه فهذه أشكال قانونية عامة تنطبق على جميع الحالات المماثلة بصرف النظر عن موضع هذه الحالات، وهل تدخل في دائرة القانون الخاص أم أنها تقع في نطاق القانون العام.
ونخلص من ذلك كله للتأكيد بأن فكرة النقض فكرة أصيلة في القانون الإداري نبتت في تربته، وعبرت عن أصالة روابطه لا سيما أن القضاء الإداري هو قضاء إنشائي يتول في جزء من نشاطه ابتداع المبادئ القانونية وابتكاره وابتكارها من صميم روابطه وهذا ما يتطلب – حسب مبدأ لزوم المقتضى – أن تكون هناك قيادة تتولى السهر على هذا الإبداع المستوحى من مناخ القانون الإداري ومقتضيات الحق العام.
وكون فكرة النقض أصيلة في القانون الإداري تسمح بخصوبة وثراء تتبع طبيعة هذا النقض وآلية عمله وماهيته الذاتية، كل ذلك بالمقارنة مع نظرية النقض المدني، تشابهاً أو تعديلاً أو خروجاً عن نظام النقض المذكور وفي ذلك من الإغراء والتشجيع ما يدعو إلى الحماس، لكنه يدعو في الأن نفسه إلى أن يشعر الإنسان عن سواعد الكد والجهد والنصب تتبع تلك التخلقات هنا في القانون الإداري وهناك في النظام المدني.
فعلى سبيل المثال لا نجد في نظام محكمة النقض المدني ما يعتبرها درجة ثالثة من درجات التقاضي، وذلك لأنها إذا نقضت الحكم المطعون فيه امتنع عليها – كقاعدة عامة – الفصل في الموضوع بل تعين عليها إحالة الدعوى إلى محكمتها لتتولى إعادة الفصل فيها خلافاً لما هو الحال بالنسبة للنقض الإداري الذي لا يستلب في فهم الواقع والتعامل معه ومعانقته، ثم إعمال الإرادة للفصل فيه نهائياً.
وهناك مثل أخر نضربه للتدليل بأوجه المقارنة بين المحكمتين، هو أن محكمة النقض تمارس اختصاصها بهدف تحقيق الصالح العام، وليس بهدف تحقيق مصلحة الخصوم، إذ أن هذه المصلحة الأخيرة، وإن تحقق إشباعها، فإنما يكون لصفة ثانوية وتابعة لتحقيق المصلحة العامة، ومن هنا ظهر القول بأن المتقاضين أمام محكمة النقض ليسوا الخصوم أمام محاكم الموضوع، وإنما هي الأحكام الصادرة عن هذه المحاكم الأخيرة.
وهذه الصورة تبدو أكثر وضوحاً وحدة في القانون الإداري، لأن دعوى الالغاء هي دعوى عينية موضوعية تتولى الغاء القرار الإداري لمخالفته قواعد الشرعية، ومن هنا يكتفي من الادعاء تحقيق المصلحة دون الحق خلافاً للقانون الخاص، كما أن الدعوى تستمر في سبرها دون اشتراط حضور المدعى جلسات المحكمة تأكيدا لهذا الطابع العام والمصلحة الأكيدة وإلغاء قرارات الإدارة المخالفة للشرعية، وهذا ما يستتبع بالتداعي وجود نظام للتقاضي ولشروط الخصوم والطعون الغير (الأشخاص الثالثين) بما يتعارض مع نظام النقض المدني.
زد على ذلك فمحكمة النقض تقبل وقائع النزاع كما هي ثابتة في الحكم المطعون فيه بالنقض وفي الأجزاء التي انصب الطعن عنها.
وانطلاقاً من ذلك، فهذه المحكمة تبحث في مدى ملاحظة سلامة إعمال القانون على هذه الوقائع، وهذا ما يثير مسألة التمييز بين الواقع والقانون على ما يتفرغ على ذلك من صعوبات قاسية للقيام بهذا الأمر.
خلافاً لما هو الحال بالنسبة للمحكمة الإدارية العليا التي تتوسع في التعامل مع الواقع وفهمه كما سنحدد إضافة إلى ما تقدم فالمحكمة الإداري تلغي القرار الإداري أي تعدمه، وهذا ما يجعل لأحكامها هذه حجية على الكافة خلافاً لأحكام محكمة النقض ذات الأثر النسبي.
هذه بعض صور التداخل والتماثل بين النظامين، وهي صور اختيرت كعينات للتدليل على تباين النظامين تبايناً وعر المسالك وخصب التضاعيف لكنه في الآن نفسه يغري بالبحث وحث الخطى على تعقب ماهية النظامين المذكورين والبحث على آلية عملهما.
تأسيساً على ما تقدم فسنخص الباب الأول موضوع الطعن المدني وأن كنا نؤثر الرفق بذلك، لأنه ليس موضوعنا الأساسي، بل سنكتفي بكلياته ومبادئه العامة على أن نخصص ونركز في الباب الثاني على الطعن الإداري موضوعنا ومادتنا الأساسية.
تركيزاً يجلي خصائصه، ويبرز مسائله، علماً أننا سنزجي ونسوق فصلاً تمهيدياً نتكلم فيه عن بعض المسائل التي تواجه كل قاض في مواجهته للواقع والقانون.