وموضوع دراستنا هو العقل السياسي في الحضارة العربية الإسلامية، وما يتفرع عنه من مبادئ مثل مبدأ التسوية (المساواة) وغير ذلك من المبادئ، وفي الحقيقة فإننا إذ نتعرض لدراسة العقل السياسي في حضارتنا، من خلال دراسة لا تاريخية تسبح فوق التاريخ، وفي المبدأ هو موضوع تاريخي اجتماعي حضاري، تتحدد طبيعته الذاتية على ضوء مناهج وأصول وتقنيات العلمين المذكورين مستضيئين بهدي الشريعة الإسلامية، وقوة النبأ العظيم ورفعة قول السماء.
وموضوع دراستنا هو العقل السياسي في الحضارة العربية الإسلامية، وما يتفرع عنه من مبادئ مثل مبدأ التسوية (المساواة) وغير ذلك من المبادئ. المبدأ هو موضوع تاريخي اجتماعي حضاري، تتحدد طبيعته الذاتية على ضوء مناهج وأصول وتقنيات العلمين المذكورين مستضيئين بهدي الشريعة الإسلامية، وقوة النبأ العظيم ورفعة قول السماء. ذلك أنه مهما حاولنا تفسير ظاهرة الفتوحات التي تمت على يد العرب المسلمين، أو التطفيف من بعدها الروحي، مما لا شك فيه أن هذا الاندفاع الكبير للفتح لا يمكن تفسيره إلا بدخول فكرة الروح إلى التاريخ حسب رؤية وقول المفكر مالك بن نبي.. لذلك فلا يمكن دراسة الفتوحات الإسلامية إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار دور العقيدة الإسلامية، وإلا كيف نفسر ظاهرة اشتراك الكثير من الصحابة بالفتوحات واستشهادهم بها، وبالتالي فإننا ننعي على القول بأن المحرك الأساسي للفتوحات الإسلامية كانت المصالح التي تحركها المغانم. والوعي بالظاهرة قد يحيط بالأسباب القريبة والمباشرة، لكنه قد يتغلغل في الأسباب والنتائج والآثار العميقة والبعيدة من أجل استشراف نتائجها المترامية الأطراف، ومن هنا نشأت الدراسات المستقبلية الاستشراقية، التي تقرأ الظاهرة وعياً لا علماً. فعلى سبيل المثال فالدور الذي يلعبه المكان يجعلنا نفرق بين الموضع والموقع، فالموضع هو الحيز المكاني المحدد بمدى الوجود المادي، أما الموقع فهو إدراك الموضع أولاً، وهو في الوقت نفسه الإحاطة بالمواقع البعيدة والعميقة المرتبطة بهذا الموقع، كما هو الحال بالنسبة إلى الدور الذي لعبته (تدمر) في التاريخ كعقدة للمواصلات التجارية، مع العلم بأن موضعها لا يتعدى كونها مكاناً في الصحراء. والمثال الثاني هو الوعي بأهمية سيناء كمكان ربط المشرق العربي بمغربه، وبالتالي يفسر المعاهدات التي عقدها الأيوبيون مع الصليبيين كما سنوضح. هل نقول إن الوعي بالتاريخ هو محكمة الأمة التي تزن – بعدل – ما شهدته من حدثان، وتقوّم بعمق آمالها ومستقبلها وما لها وما عليها؟ وفي الحقيقة فإننا إذ نتعرض لدراسة العقل السياسي في حضارتنا، فإن ذلك دراسة لا تاريخية تسبح فوق التاريخ، أي ما يسمونها دراسة على بياض، وفي الوقت نفسه فلن تكون دراسة تاريخية تلهث وراء الدقائق والتفصيلات، وإنما هي دراسة تاريخية تعني وتهتم بالوعي بالمعنى والعبرة والمغزى، أي بالوصول إلى كليات العقل السياسي العربية وخصائصه، بحيث تكون هذه الدراسة قريبة من الموضوع وقريبة منا. قريبة من الموضوع تدرسه في عصره وظروفه، وقريبة منها بحيث نستجلي العبر المستقاة من هذه الدراسة بالروح التي عناها ووسم بها ابن خلدون مقدمته بعنوان (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر وما جاورهم من ذوي السلطان الأكبر). وبمعنى أكثر جلاء وبروزاً فدراستنا لن تلهث – كما قلنا – وراء المشاحنات والعنعنات والمصالح الضيقة ووجهات النظر العرضية الزائلة المحدودة، لكنها دراسة تحركها هموم هذه الأمة (أمة المصائب) التي أنهكها وأضناها التعب وأحاطت بها من كل حد وصوب المكائد والإهن والتمزق ودعاوى الفرقة الناجية. دراسة ستكون غايتها العميقة لمّ الشمل ولأم الجراح وضم الشعب ورأب كل ألم وصدع. وبهذه الروح – وكما يردده إسلامنا – فقراءة التاريخ تضيف لقارئه عمراً جديداً. نحن لا ننكر أن العنف مصدره الظلم، وهذه الظاهرة يدرسها علم الاجتماع لا الأخلاقيون، تنشأ بمجرد وجود الخلل في أعماق المجتمع وعلى قدر هذا الخلل، فهل كان المجتمع العربي الإسلامي على هذا القدر من الخلل الذي جعل المجتمع يتشظى إلى مؤيد لعلي أو معاوية؟. نحن لا نؤمن بنظرية المؤامرة في تفسير التاريخ ولا حتى بأقوال الذين أخذوا يبررونها ليسقطوا التبعة والمسؤولية عن مجتمعنا. والسؤال المطروح هو لمَ لمْ تفعل المؤامرة فعلها على عهد سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر؟. لقد تكررت ظاهرة الخروج على الحاكم منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، والسؤال المطروح على الوجدان والضمير العربي هو: هل كان هناك مبرر لقتل الخليفة عثمان رغم أن الأيام الأخيرة من حكمه اقترنت ولا شك ببعض الأخطاء؟ لكن هل ارتفعت هذه الأخطاء إلى مستوى (الكفر البواح) الذي يبرر الخروج كما سنرى؟. هل نكتفي بذلك أم نتساءل عن موقف معاوية وأنصاره، وهل اتسم هذا الموقف بالشرعية التي تبرر الخروج؟. لن نكثر التساؤلات بعد ذلك، فلعلنا نفتق الجراح، ونحن في كتابتنا هذه لا ندون العالم بالتاريخ وإنما الوعي به، ولعل أولى خطوات هذا الوعي هي لملمة الجراح وتبديها لكي نطل على نور المحجة البيضاء للأمة التي أنهكها التعب وقض مضاجعها الفرقة والألم. قال تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون. ليس هناك فرقة ناجية، وإنما هنالك أمة عربية إسلامية ناجية من براثن الاستعمار واقتطاع الأرض واحتلال الروح والعرض والأرض. أجل صعدت القبيلة على حساب الصحابة، وهذا ما نراه في الرسائل المتبادلة بين سيدنا علي ومعاوية، وتمسك علي بمبدأ المهاجرين السابقين، بينما تمسك معاوية بالمنخرطين مجدداً في الحياة. هذه جولة طويلة في أعماق التاريخ نسبرها وننخلها للعبرة والخبرة واليقظة، ونكرر ممن قرأ التاريخ أضاف عمر الشعوب والقادة والأبطال الذين قرأ تاريخهم وخبر تجاربهم. والوعي بالتاريخ تتجاوز فائدته وثمراته الاستفادة من الحاضر وبناء الواقع المعاش، إلى التأثير في المستقبل، القريب منه والبعيد، وبالتالي فنحن نسهم في زيادة أعمار الأجيال القادمة، بما نضعه على دروبها من أضواء وما نقدمه لتجاربها وخبراتها من إضافات. وهنا حق لنا أن نقول: إن الوعي بالتاريخ إنما يمثل سلاحاً من أكثر الأسلحة فعالية في بناء مستقبل الأمة التي تجاوز أبناؤها حدود القراءة لتاريخها إلى رحاب الوعي بهذا التاريخ. وقضية الوعي بالتاريخ لا تتطلب فقط "ذكاء" الدارس والباحث والمؤرخ، وقدرته على "الفهم" والتحليل، وإنما لا بد لهذه المهمة من الارتكاز على منهج علمي في دراسة التاريخ، وتناول صفحاته وأحقابه وأحداثه والعلاقات التي ترتبط ربطاً موضوعياً وجدلياً، لا على أساس كونه ركاماً من الأحداث، وإنما على أساس اكتشاف الروح السارية دائماً، وعلاقات ذلك بالقوى الاجتماعية والتأثيرات الداخلية والمؤثرات الخارجية، وعوامل المد والتصاعد وقوى الجزر والهبوط التي اعترضت الأمة. فتاريخ الأمة – كما أكدنا – هو محكمتها، والأحداث هي وقائع تلك المحكمة، ولا بد للمحاكمة من إجراءات وقواعد هي الذاكرة التاريخية، أو ما أطلق عليها الدكتور زريق "الخلية التذكيرية الإحيائية". وقواعد هذه المحكمة تقوم على عنصرين: عقلي وخلقي، حيث يتم التشوف إلى الحق وإيثار الخير والترفع عن الهوى.