هو أول الكتب التي تنشر للدكتور برهان زريق يرحمه الله بعد رحيله...يتحدث فيه عن سمات وصفات وخصائص العروبة بوجهها الإسلامي المشرق ، ويعقد المقارنة مع واقع الإنسانية في ظل ما يسمى بالعولمة ذات الوجه المسيطر المستغل القبيح الذي تخلى عن الإنسانية التي تجمع بني البشر، ويستعرض موقف العروبة الإسلامية ونقاط التوافق والالتقاء مع تلك العالمية الإنسانية.
تكلم مفكرون وكتاب غربيون كثر عن حال الطبيعة الإنسانية الأولى، فمنهم من لم ير فيها سوى رهق القترة، وقد أكسبت حواشيها الوحشية والقتامة، ومنهم متفائلون أمثال روسو ولوك رأوا الحياة مبتسمة رقت حواشيها، فأخرجت كل ذي لون بهيج.
على أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أكد أن الإنسان يلد على الفطرة، فإذا أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
هذا التأكيد الرسولي يستوي على نهج قرآني شامخ ألا وهو المنهج التقويمي التصحيحي، منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".
وبيان ذلك أن الإنسان أستخلف في الأرض ليعمرها، وبالتالي فما حدث انحراف أو تقصير في هذا الأصل العام فاللواذ، المعول عليه هو تقويم الاعوجاج، وقد أطلق الدكتور محمد عبد الله دراز على هذا المبدأ تسمية جهد المدافعة: effort eliminitoire أو اقتلاع الأشواك، يقابله الجهد المبدع: effort creatrice أي غرس الغراس الصالحة.
وما أكثر الآيات الكريمة التي تؤكد ذلك، كقوله تعالى: "اعملوا فيسرى الله عملكم" / التوبة / 105.
وقوله: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى" / الليل / 105.
ولقد أكد هذا الجانب الخير في الإنسانية الفيلسوف كانت فقال: إن القابلية للتربية هي التي تسمح ببزوغ الإنسانية.
إن ما يميز راهنيتنا سيطرة الحياة الفردية وبروز نزعات الانكماش على الذات، وانبثات الأنا في جميع جنبات الحياة Metasta de l.ego.
ولكن أليس هنالك الوجه الآخر لجانوس، والإنسانية تعج بالقوى المحبة العاملة للسلام والخير والمحبة والعدل الإنساني، ألم نر ـ أثناء الهجوم الأخير على العراق ـ الجماهير تصرخ في شوارع لندن وباريس مندده بهذه الفعلة البشعة النكراء والغزو الماجن، وهنالك الآلاف من المنظمات في أرجاء العالم تسعى جاهدة إلى وضع أسس وأشكال جديدة من التعاون والتضامن من أجل قيادة العالم، وهي منظمات تعمل في شتى ميادين الحياة: الحفاظ على الأمن الإنساني (انتشار الأسلحة النووية) ـ ميادين البيئة ـ ميدان الغذاء الخ.....
ألسنا نرى قوى الظلام ومصاصي الدماء في حال القلق والبحران وفقدان الوزن.
أليست الإنسانية في حال تشكل جديد: chaos أو ما وصف بعدم التعين الذي يمكن أن يعقبه مخاض جديد لصالح الإنسانية؟؟.
هل يمكن لهذه الداروينية الاجتماعية ولهذه الاقتصادية الوحشية البربرية أن تبقى ملتصقة بحمأة الأرض تلهث وراء العجل الذهبي دون قيد أو شرط ضاربة عرض الحائط بمصالح الجياع والمنبوذين....
هل تستقيم الحياة الإنسانية دون قسط من الأمن والطمأنينة وتوفير حد أدنى من الخير والعلاقات الإنسانية الحقة.
يشير التقرير السنوي الذي أصدرته عام 1997 منظمة اليونيسيف العالمية إلى أن ثمة سبعة ملايين طفلاً يموتون كل عام بسبب سوء التغذية، وإن عددهم يفوق ضحايا أية جائحة مرضية أو أي كارثة طبيعية أو أي حرب، وذلك فضلاً عما يخلفه سوء التغذية لدى الملايين من عاهات جسدية ونفسية، هذا في الوقت الذي تعلن فيه كارول بلامي المديرة العامة لمنظمة اليونيسيف أن القضاء على سوء التغذية هو في متناول اليد إن صحت العزيمة، هذا إذا نسينا انتشار مرض الإيدز انتشاراً متزايداً يوماً بعد يوم ، أضف إلى ذلك ما يعانيه العالم من انحلال في شتى مجالات الحياة، من ذلك المدن المفككة ومجاهلها المتباعدة المعزولة واختناق السير فيها، وما يصاحب ذلك من ضيق ونزوات وخنق والتهاب للعقول والصدور من سيطرة الحياة الفردية وبروز نزعات الانكماش على الذات ومن انحلال الروابط بين الأسرة والمدرسة وبين الآباء والأبناء ومن هشاشة الزواج وتكاثر الطلاق وشيوع العزلة والإنفراد، ومن تزايد عدد المنتحرين ورواد المصحات العقلية وملتهمي الحبوب المهدئة وفي عزلة الطاعنين في السن.
هل يجوز لهذا التقدم التقني الجبار أن يبقى سائراً في الاتجاه العسكري لصالح الجشعين النهمين أباطرة المال والمضاربات، ألا يجب أن تتغير النظرة إلى الحياة والكون والمصير الإنساني باتجاه سعادة الإنسان ومستقبله؟.
هل يجوز أن يبقى هذا التطاحن والصراع المقيتين بين الإنسان وأخيه الإنسان، ألا يجب أن يتغلب ذلك الجانب الوضاء الملائكي الخير من الإنسان على الجانب الشيطاني الحيواني؟؟.
لقد حدث تقدم رائع في علوم التقنيات البيولوجية، ولكن هذا التقدم لم يسخر لصالح المساكين المعدمين في الأرض، بل بقيت الدول الكبرى تعيث فساداً تدفعها المصالح المادية العفنة والضيقة والمقيتة.
أليس جشع جمع المال في النهاية نكالاً على صاحبه، ولأننا حيال أسطورة فاوست الذي ربح المال لكنه خسر نفسه أو حيال الذي أنسلخ عن آيات الله، فمثله مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث.
أليست النهاية ستسفر عن إرادة الإنسان وعزيمته وشكيمته وصبره وعناده في سبيل الحق ومقاومة الباطل؟؟.
لقد تكلم بوش وأمثاله الكثير عن الديمقراطية، أليست هذه الديموقراطية تعني في الجوهر فوضى السوق وحميا السوق ونار السوق...
إن جوهر الديمقراطية الحقة يكمن في كرامة الإنسان واحترام الإنسان وصون حقوق الإنسان وكرامته، كما أن الثقافة الإنسانية الحقة هي الاهتجاس في حل مشاكل الإنسانية، إنها بذل السلام للعالم، كما أكده الرسول الكريم، وهي ليست بالتالي هاتيك الثقافة التي تدعو إلى صراع الحضارات، كما يزعم ويدعي هنتيجتون لسان حال مصاصي الدماء في الولايات المتحدة الأمريكية.
وأدهى من ذلك وأمر تلك الحروب الدينية والإثنية التي لا مبرر لها التي تشتعل في العالم، إذ ليس هنالك أمة تتفوق في الجوهر على أمة أخرى.
وعوضاً عن الصراع والتكالب، فليكن هاجسنا التنافس والتفاهم والتضامن من أجل صالح الإنسانية ومستقبلها، قال تعالى: وليتنافس المتنافسون.
وفي هذه الحروب ـ التي تشتعل في العالم والذي مبعثها الغرب ـ يظهر الإنسان وكأنه ذئب لأخيه الإنسان، والمسألة في نظرنا معنوية أخلاقية مبعثها التكالب وحب الذات والأنانية بدلاً من تفاعل الثقافات الإنسانية الحقة وتمازجها وتفاعلها من أجل كرامة الإنسان وجوهره وقيمه الرفيعة.
صحيح أن هنالك أخلاقاً تلائم التقدم التقاني كالحوار و مبدأ المسؤولية، لكن يجب أن لا نغفل عن اجتراح التراث الإنساني الخالد من التضامن والمحبة والتعاون من أجل الإنسان ورقيه وتقدمه وعلوه وكرامته، وبالتالي فكل أمة راعية،
وكما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته".
والقومية الحقة هي المنزع الإنساني الحق والمحتد والملجأ والملاذ والقرار المكين، وقد ثبت بقاؤها وقدرها وخيرها وعزتها في المضمار الإنساني الخالد.
ويمكن القول والتأكيد بأن الأمة العربية من أعرق الأمم في تراثها الخالد وفيما زكاه الإسلام للبشرية من الأريج ومن المبادئ الخلقية الإنسانية العميقة.
لقد ثبت فشل النزعة الاقتصادية الصرفة المفرطة المتوحشة المتنكرة لشبكة العلاقات والمعتقدات والقيم والبواعث التي تكمن في قلب المورث الثقافي الإنساني الحي الخالد.
وهذه النزعة الاقتصادية الصماء التي تمثلها الشركات المتعددة الجنسية، تستهين بالدولة والدور الذي لعبته لصالح الإنسان والعدالة والصالح العام، ولسان حال هذه الشركات ((اليد الخفية في العالم)) إضعاف الدولة من أجل أن تجوس تمزيقاً واستشراء وعبثاً وامتصاص دماء لدرجة أننا نسمع بأن خمساً وثلاثين شركة من هذه الشركات يتحكم بقيادة العالم ومصيره، كما نسمع بتلك الأزمة الاقتصادية الكبرى التي عصفت بالنمور في جنوبي شرقي آسيا في ماليزيا إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الراهنة، وكيف لا يكون موقف الشركات المشار إليها هكذا والرقم الذي تتعامل به شركة جنرال موتورز أعلى من الناتج القومي الإجمالي لإندونيسيا...
والأمر نفسه بالنسبة لعولمة وسائل الاتصال أو ما يسمونه الطرق الفسيحة highways auto routes وما تفتحه من ضروب التلاعب بالعقول واقتناصها للنفوس ولشتى أنواع الخداع والتضليل.
ولا نبالغ إن قلنا إن عالمنا يعيش التمزق والفصام، فشطر منه يتعرض لخطر التمركز الثقافي من داخله، وشطر آخر يعيد تكوين نفسه استناداً إلى إيديولوجيات صارمة وخلقه، والحل هو مزيد من إنسانية الإنسان، ومزيد من الفكر الخلاق المبدع والحوار الحي والتفاعل النبيل.
لقد دللنا سابقاً بعراقة وأصالة ثقافتنا القومية المعززة بالتراث الإسلامي، ولكن هذه الثقافة مدعوة راهنياً لتطوير ذاتها وبناء حداثتها، وأن تنزع عنها الثوب العتيق البالي، وهذا يتوقف على المشاركة الجماهيرية وعلى دوران هذه الثقافة حول الكون والأشياء لا دورانها حول الذات والمصالح الأنانية.
إن قيمنا ومبادئنا وثقافتنا الحادة الحارة هي التي تقودنا إلى غايات الخلق والإبداع والإحياء والتطوير والمنافسة والعطاء.
إن الوصول إلى مجتمع القرية العالمية الوحيدة حيث تتحقق المصالح المشتركة والقيم الموحدة والاماني المرجوة.
وقد ينتهي كل شيء دون أن ينتهي كلامنا على هذا التردي والسقوط العالمي وضرورة انتشالها من هذه الهوة، فالطريق كما قال الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم طويل لا يقطعه إلا المخفون وزمان صعب استبد به الظلمة، وتملك فيه الفسقة، ومع هذا كلنا أمل في هذا التشكل الجديد للعالم..... الذي تبنيه النفوس الصارمة والسواعد الماضية والعزائم المتينة والنفوس الصابرة الصادقة العالية المصممة على رفع كرامة الإنسان وعزمه.
هذه مجرد صرخات ونبضات وخواطر تصلح لأن تكون مفاتيح أولية للبحث في هذا الخضم الإنساني الشائك والمعقد والمأزوم.