أن التحولات العميقة التي تولدت على يد العلم أنتجت نمطاً من الإنسان العصري مثقف بخصائص محددة، فهو إنسان أكثر استعداداً للأخذ الواعي والعميق بمبدأ الحرية والديمقراطية، وهو إنسان أكثر تسامياً واستعداداً لقبول تعدد الآراء، كما أنه أكثر استعداداً لقبول التغيير واعتناق تجارب جديدة، وهو إنسان يعرف قيمة الزمن ويعيش الحاضر، ويهتم بالمستقبل أكثر من الماضي، بل إنه يمتلك رؤية ديناميكية للزمان والمكان، وهو فاعل في هذا الزمان والمكاني عرف أن التطور والتقدم لا يحددان بذاتهما دون تخطيط وتنظيم. إن الحديث عن المعاصرة لا يتم إلا من خلال الذات والهوية والشخصية القومية، وإلا كنا أمام انغماس في الغير انغماساً يفقدنا وجودنا ويجعلنا إمّعات غير قادرين على إنتاج وإنجاز المعنى والقيمة وممارسة الحق التاريخي في ذلك، وهذه هي جدلية الهوية والمعاصرة التي تعني عدم الانغماس في الآخر أو الانكماش عنه في كهوف الذات، بل الاستجابة الخلاقة لظروف العصر وإنجازاته الفذة. ومن هنا فإن ممارسة المعاصرة والتمرس بروح الوجودية الدافعة للابتكار الحضاري، هذه الأمور لا تعني التبعية أو الغزو، بقدر ما تعني ممارسة حق تاريخي يؤهلنا لتدعيم ثقافة إنسانية بلا حدود، وتهبنا القدرة آجلاً أو عاجلاً على احتلال مكانة ممتازة في مجال الإنجاز والتجديد، كمنشئين، وعلى قاعدة الندّيّة (دع الزهور تتفتح) في معركة العطاء الإنساني أو كما قال تعالى في كتابه الكريم:فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ المطففين/26. إن الاستثمار الخلاق لا يتم بواسطة التقليد بل بمحاورة الآخر، وحوار الآخر لا يتم إلا بالتكافؤ، والتكافؤ لا يتم بمجرد استعمال الذاكرة، ولن يكون بدغدغات الذات، على مواجهة الدينامية القوية لثقافة نهاية القرن العشرين، فأين هو المشروع النهضوي العربي من كل ذلك.