السلطة السياسية هي المكوك الذي ينسج ما هو مشترك، واللحمة التي تجمع النسيج الضام في الأمة، لم تحظ بالدراسة اللازمة من المثقفين، يكتشفون طبيعتها وأساليب ممارسة عملها ويوضحون أهدافها ومراميها وغايتها ومآلاتها ومبتغاها ومرتجى أمرها.

لعل استكشاف الإنسان، من أهم الموضوعات التي شملت العلوم الإنسانية بأسرها بل لعل دراسة السلطة السياسية - وهي فرع علي الأصل السابق- تستقطب جهود الدراسات الحضارية باعتبارها محور قطب ولباب وسرة هذه الدراسات. فالسلطة السياسية هي -كما قال المفكر فوكو- المكوك الذي ينسج ما هو مشترك، واللحمة التي تجمع النسيج الضام في الأمة، وركن القيم في الجماعة البشرية، وقد وصف الفهامة ابن خلدون هذه الطاقة الحضارية بقوله: الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل المحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الأخر، فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر. ولقد دلل الدكتور طعيمة الجرف بأهمية هذه الظاهرة بقوله: السلطة هي إطار الجماعة والعلاقة بينهما هي علاقة الكائن الحي بجهازه العصبي، وإن انعدام هذا الجهاز يعني تفكك الجماعة واندثارها. ومع ذلك فعلى الرغم من الدور الذي لعبته السلطة تاريخيا وتلعبه راهنياً، فهي لم تحظ بالدراسة اللازمة من المثقفين، يشرٌحون جثتها، ويكتشفون طبيعتها وأساليب ممارسة عملها ويوضحون أهدافها ومراميها وغايتها ومآلاتها ومبتغاها ومرتجى أمرها. وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد عابد الجابري: إن الفكر العربي الحديث والمعاصر لم يطرح مشكلة الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما من منظور يعالج مسألة السلطة، إذ أن تناول السياسة بخطاب مستقل شيء غائب أو يكاد في الفكر النهضوي الحديث. هكذا كان علينا أن نخوض -وباستقلال موضوعي - هذا الموضوع بما يحتله من رقعة واسعة، وما يتحرك فيه من ساحة عريضة ويدور حوله في الساحة الثقافية، شعارنا في ذلك أنه لا يمكن القبض على الظاهرة والسيطرة عليها، والاستفادة من قدراتها وطاقتها إلا بعد معرفة كنهها وطبيعتها وماهيتها. هكذا كان علينا أن نعالج موضوع تأسيس السلطة ، بما يتفرع على ذلك من ظاهرة غزو الفكر للدولة وتنظيمه لها، وإقامتها على عنصر ثابت يقيها التبدل والتغير والمشاحنات ويضفي عليها غلالة الدوام والاستمرار والثبات. ويستتبع ذلك أنه لم يلهنا موضوع السلطة المستبدة وتاريخية ظلاماتها إلا بالقدر البسيط المتيقن، فهذه السلطة هدفها الاستبداد، والاستبداد ظاهرة عيب صفيق ، وليس هدفاُ أو شعاراُ أو أملاُ. لقد كان تعويلنا الأساسي على مسألة تأسيس السلطة وانتقالها من مرحلة السلطة الشخصية التي يتمتع بها الحاكم على أنها ملكه ومرتبطة بشخصيته، إلى مرحلة السلطة المجردة، التي تجد مصدرها وأساسها في الجماعة لا في الأطماع والنزاع والمشاحنات. أجل لقد غفل العلم كل تفسير سحري ميثولوجي لتأسيس السلطة، فأصبحت ظاهرة تنظيم وترتيب تجد أساسها في المؤسسة، قال أحد المفكرين واصفاً ذلك: إنني أطيع الرئيس لأنني أرى عبره مشروعاُ يهمه كما يهمني، ولكن يتجاوزه كما يتجاوزني. فالسلطة السياسية مؤسسة رهانها الديموقراطية وجوهرها جامعة النظام والحركة، النظام حركة متمثلة، ولكن الحركة تفتش عن قطاعات جديدة من الشعب كي تمتص حيويتها وتدخلها في العمل السياسي. والسلطة بهذا المعنى فلكها القانون، وحيث يوجد مجتمع يوجد قانون، فالقانون بالنسبة للسلطة كالكلام بالنسبة للإنسان. ولم تنسنا هذه الدراسة أن نتكلم باستعاضة على ظاهرة السيادة وخصائصها وقيودها لصالح حرية المواطن وحقوقه. ولقد احتل موضوع "مجال السلطة وأهدافها" رقعة واسعة من الدراسة، حيث تكلمنا على الصالح المشترك، وقلنا إن هذا الصالح تكمن فيه الغائية الاجتماعية، فهو ركن القيم وهدفه أو هو في الوقت نفسه أساس التنظيم وسنده ومبرر السلطة ووجودها ونشأتها وممارستها لسطاتها، فهذه الغائية هي ثورة الإشعاع الكبرى لوجود الجماعة، وفيها سندها ومبررها. فالسلطة تنزلق من الغائية الاجتماعية من أجل تحقيقها، وهي سلطة قائدة للمجتمع ومكمن سيادتها في الإرساء والإنشاء والتشييد، أما سيادة الشعب، فهي في قبول هذا التشييد أو رفضه. والسيادة العليا الحكم في هذا النزاع هي الفكرة الموجهة للصالح المشترك. هذا مع العلم أننا لم نغفل أو نتغافل عن التعرض لمواضيع كثيرة وهامة تتفرع على البحث مثل: • الظاهرة السياسية • بنية السلطة في الدولة • معنى ومضمون السيادة • أساليب ممارسة السيادة لمعنى السيادة • فصل السلطات وتوزيعها وتنظيمها، وغير ذلك من الأمور ذلك هو مرمى الدراسة وغايتها ومرتجاها وهدفها ومرساها وعلى الله قصد السبيل وهو المستعان.