هو الكتاب الأول الذي ألفه الدكتور برهان زريق يرحمه الله بعد رسالة الدكتوراه وسيتم نشر الكتاب الكترونيا على الموقع بعد انقضاء حق الناشر في طبعته الأخيرة المطورة والمزيدة

الأمة جماعة اجتماعية تنشأ –عبر صيرورة تاريخية طويلة ومديدة– بصورة صامتة وهادئة وتلقائية ومستمرة، نتيجة تفاعل قوى وعوامل متعددة: طبيعية وواقعية وجغرافية وبشرية، وغير ذلك ... هذا التطور البطيء يفرز بالتدريج في جسد الجماعة ، ويبني التماسك وعرى الاتحاد، وتجليات الثقافة، وقيم النضال وأشكال التصدي للتحديات، وشعور الانتماء ووعي الهوية والذات. وقد يبقى الشعور بالانتماء عرفياً وكامناً لا يتحرك إلا كرد فعل للتحدي والخطر، وقد يأخذ شكل الافتخار بأمجاد الأمة والتغني بقيمها. بيد أن هذا الإحساس –كامناً أم مفصحاً عنه– لا يرقى بالبداهة إلى مستوى الوعي كحالة ذهنية أكثر استشعاراً وإدراكاً بمفهوم الأمة، وبلورة وتشخيصاً لهذه الهموم والأهداف. ولعل أبرز ملامح ومظاهر هذا الوعي الاجتماعي التاريخي توق وظمأ وجدان الأمة أخلاقياً واتجاه بصرها صوب تأطير حياتها في كيان سياسي "جماعة سياسية أو دولة". على هذه القاعدة الرصينة يمكن أن نميز –بالنسبة للأمة العربية– بين حقيقتها الاجتماعية الراسخة المتجذرة المنغمسة في أعماق التاريخ والحياة، وما يتفرع على ذلك من نشوء ظاهرة الشعور بالهوية، نميز ذلك من حقيقة وعي الأمة بذاتها وقدرتها ومستقبلها وآمالها ورسالتها وسعيها وكفاحها لتجسيد هذا الوعي في تحقيقات ومؤسسات سياسية. وبالطبع، فهذه الفرادة للحقيقة الاجتماعية لأمتنا تخرج عن نطاق الجدل، وإلا كيف نفسر عبقرية لغتنا العربية إلا على أنها ترجمة لمخاض روح الأمة ومغامراتها من أجل سبر الحقيقة والتفاعل مع الواقع والحياة، لاسيما أن اللغة –ليس إلا– جهاز مفاهيمي وآلية إجرائية أداتية لحمل الأفكار والإفصاح عنها. يكفينا في هذا السياق أن نسجل لإدراك العربي بعظمة الواقع وتلاوينه وتضاعيفه أنه أطلق على المراحل المختلفة لتشكل حبة العنب خمسين تسمية منذ تبرعمها وحتى صيرورتها زبيبة. ثم كيف نفسر منظومة القيم العربية –من خلال الأمثال والكلم الجامع مثلاً– إلا بإقرارنا بأن لهذه الأمة نظرة متكاملة عن الحياة بشتى مستوياتها ومظاهرها وحقائقها. ومن جهة أخرى، فقد تعددت المواقف المشرفة لهذه الأمة في وجه التحديات، ومن أبرز هذه المواقف معركة "ذي قار"، حيث تحدت الكرامة العربية صلف إمبراطورية الفرس المدجج بالسلاح. ثم من ينسى حادثة الفيل التي رفعها الوجدان العربي إلى مستوى القضية الوطنية، وقد أصل هذا الوجدان أدباً اجتماعياً كان يدفع كل عربي إلى رمي "أبي رغال" بالحجارة قياساً على رمي الشيطان في مناسك الحج، وتعبيراً عن استنكاره لموقف هذا الخائن. ثم ألم يرمز القرآن الكريم الحادثة ويطقسنها "سورة الفيل"، أي يجعلها من رأسماله الرمزي رفعاً للمسألة الوطنية إلى مصاف الحقائق الدينية. لقد كان للعربي شعوره المدجج بعزته وكرامته شعوراً ملأ أقطار نفسه، وامتلك جوانب وجدانه، وقد ظهر ذلك الشعور في مواقف متعددة، من ذلك مفاخرة قس بن ساعدة في بلاط كسرى، وكما ظهر في مثل بسيط يوضحه حوار عنترة بن شداد مع ناقته التي تتأبى الشرب من مياه الأعاجم. قال هذا الفارس الشاعر: شربت بماء الدحرضين فأصبحت زوراء تنفر من مياه الديلم بل إن رسول البشرية لم يتوان عندما سمع انتصار العرب على العجم في "ذي قار" أن قال: "اليوم انتصف العرب من العجم وبي نصروا". هذا على صعيد الشعور، أما وعي أمتنا كمزاج لشعورها وفكرها، فهو حقيقة الوجود العربي منذ أن كان هذا الوجود، وكما يظهر في كنده والمناذرة، والمدينة الدولة في مكة، ومملكة تدمر والمستقرات الحضرية في الجزيرة العربية، وغير ذلك من التحققات السياسية التي يفيض بها تاريخنا. بيد أن حالات الوعي السابقة على أهميتها لم تكن لترقى إلى مستوى تجربة قصي بن كلاب الوحدوية، ولم تكن لتستحوذ على الضمير القومي مثل ما استحوذته هذه التجربة تكريماً لهذا الرجل الذي قرش القبائل "جمعها" وأصبح بذلك رمزاً خالداً للبطل القومي. وبالمقابل، وكوزان لهذا التقدير، فقد قوبل موقف خزاعة "خزع تعني انفصل وخرج" بالرفض والاستنكار لخروجها على الجذر الوحدوي لقصي. ومما لاشك فيه أن الإسلام هو التجلي الأعظم والانبثاق الأهم لهذا الوعي باتجاه التأسيس وخلق الجماعة "الدولة"، بل الإسلام في جوهره وماهيته توحيد على مستوى العقيدة، ووحدة على صعيد السياسة. ولنا أن نتساءل أليست دولة يثرب "المدينة المنورة" هي دولة العرب الأولى الأم، وإن ميثاقها "صحيفتها موضع الدراسة"، هو المؤذن بولادة الأمة العربية على قاعدة الوطنية والإيمان. لقد كان المعمار الاجتماعي لهذه الدولة عربي المنبت والمحتد، بل إن اليهود العرب –دون اليهود العبريين– هم الذين سارعوا للانضمام إلى هذه الجماعة السياسية. لقد كان هذا الميثاق اجتهاداً عربياً باتجاه الإنصهار والتوحيد، وبرنامجاً سياسياً فتح أبوابه للعرب كي يسارعوا للانضمام إليه. لقد كان الميثاق تأطيراً للإشكالية العربية في الجاهلية توقاً للتوحيد، وهو في الوقت نفسه تتويجاً لبيعتي العقبة اللتين اشترطتا على الرسول أن يتخذ من يثرب عاصمة للدولة حتى بعد أن يعزه الله، وينصره على قريش. أضف إلى ذلك، فهذا القلب الكبير لمحمد كان يمتلئ بهموم أمته العربية وهاجسها الأخلاقي والسياسي بأن يكون لها شأن سياسي عظيم، وهو ما يتضح من تلك الهموم التي كانت تكسو وجهه عندما كان يقلب وجهه في السماء رجاءً وأملاً بأن يمن الله على العرب بقبلة ترضاها أمته ويرضاها هو نفسه، قال تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنوليك قبلة ترضاها".[البقرة:144] لقد كان تأسيس الجماعة الإسلامية في يثرب مشروعاً سياسياً انطلق من قرار صدر عن الرسول، إذ أدركوا منذ البداية أنهم يؤسسون الجماعة الأمة، يقول جيب: "كانت الكتلة الدينية الجديدة، منذ الفترة المكية ينظر إليها على أنها جماعة منظمة على أسس سياسية، وليست كنسية في إطار دولة علمانية. وقد أكدت مصادرنا التاريخية حقيقة هذا المشروع السياسي الذي كان يدور في خلد الرسول. يروي المؤرخون عن شخص اسمه عفيف الكندي أنه قال: "كنت امرؤا تاجراً، فقدمت مكة أيام الحج، فأتيت العباس عم النبي، فينما نحن عنده إذ خرج رجل فقام تجاه الكعبة يصلي، فقلت ياعباس، ماهذا الدين، فقال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي يزعم أن الله أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح له". أجل هذه السمة التوحيدية هي ماهية هذا الدين الحنيف وجوهره، ومن ثم إذا كان لنا أن نتكلم عن قسمة التوحيد على مستوى العقيدة، فنحن مدعوون لأن نتكلم عن القسمة الوحدوية لهذا الدين على صعيد الاجتماع والسياسة. ويمكن القول بأن الروح العربية اشربت بهذه القيمة، وماكان لأمة من الأمم أن تتفاعل مع هذه الفكرة مثل جدل الأمة العربية معها، يكفينا أن ندلل على أن مصطلح "أهل الكتاب" انصرف في القرآن إلى اليهود والنصارى، ولكن الروح العربية –كما سنوضحه في متن الكتاب– أخذت تحرك هذا المصطلح في وجدانها لتعطيه مدلولاً موسعاً يتفق مع رحابة روح هذه الأمة وسعة جوانب الخير في ضميرها. والواقع أنه إذا استطعنا الكلام على دين يؤمن بالمنهجية التعددية، وما أطلقنا عليه في الكتاب الثالث غير المرفوع، إذا استطعنا ذلك فإننا سنجد ذلك في الإسلام، وبالمقابل إذا تكلمنا على حضارة إسلامية خالية من الشعوبية، فلن نجد ذلك إلا في الحضارة العربية الإسلامية. وهكذا يعيد التاريخ نفسه، وهنالك خط ومسار واحد يبتدئ بِلمتونه الأم، مروراً بدول الجنوب العربي، فالمناذرة، والغساسنة، فتجربة قصي بن كلاب، صعوداً بالمدينة الدولة في مكة والإيلاف وحلف الفضول، فالمستقرات الحضرية في الجزيرة العربية، فالتجربة النبوية التأسيسية في المدينة المنورة، وصولاً إلى المحطات التوحيدية الأخيرة بدءاً من صلاح الدين الأيوبي، فمحمد علي باشا، فعبد الناصر أب العروبة الحديثة، وغيرهم وغيرهم. بنية ثابتة في الوجود العربي، وقانون مطرد لخلق جوامع التوحيد وبوتقات الصهر، يقابل ذلك أنياب تخترق هذه البنية، وتمزق جسد الأمة إلى مزق وأشلاء، بدءاً من حادثة الفيل والشعوبية والزندقة، وهجمات المغول والتتار، ثم العدوان الصهيوني البغيض الغشوم. ولقد تعددت مواقفنا المعاصرة من تلك الإشكالية الكبرى: أولاً: خطاب سياسي إيديولوجي لم يؤسس السياسي على المجتمعي المعرفي الإنتربولوجي التاريخي، بل اكتفى برفع الشعارات، وتجييش الجماهير وتعبئتها عاطفياً دون أن يسلحها بالوعي التاريخي العميق، هذا الخطاب لم يقم بالتنظير المفهومي لأهم المشكلات العربية الراهنة "نقول مشكلات لأن حل المشكلات يؤدي إلى حل الإشكالية"، مثل مشكلة العروبة والإسلام، الدين والدولة، الفرد والجماعة، الاعتراف بالمجتمع المدني وتحديد حقوقه، المحورية الأخلاقية ودورها في المشروع النهضوي، البعد الآلي في الإنسان، الفاعل الاقتصادي، ضبط جدلية الملكية الخاصة والملكية العامة، الشرعية العربية والشرعية الإسلامية والعلاقة بينهما، جدلية السلطة والحرية، المواطنة، وغير ذلك من أمهات المشاكل التي هي دعائم المشروع الحضاري العربي، لاسيما أن صراعنا مع الصهيونية هو أولاً وأخيراً صراع حضاري... لقد كان على هذا الخطاب أن يقوم بحفر اركيولوجي معرفي عميق حول هذه الأجهزة المفاهيمية، وأن ينقب ويتبحر في جذرها تبحراً معرفياً وتاريخياً دقيقاً وعميقاً، على ضوء المنهج العلمي الوضعي النقدي التحليلي الدقيق، وبعد ذلك يقيم مشروعه السياسي على هذه القاعدة الصلبة، وبذلك يستطيع أن يقبض على الظاهرة بعد أن يفهم قوانينها وأوالياتها المحركة والفاعلة. ثانياً: خطاب المثقفين العضويين المرتبطين بالهم الأخلاقي السياسي الاجتماعي لهذه الأمة، والذين أدركوا أن المشروع النهضوي هو قبل كل شيء مشروع حضاري، لما تكتمل معالمه وقسماته، ولما يرتفع صرحه. هذا الخطاب يراهن على الناهض العقلي والثقافي والحضاري، والشرعية الدينية والتأهيل الحضاري للإنسان والأنسنه، وما يتفرع عليها من تقرير حقوق الإنسان الأساسية وحرياته وواجباته تجاه وطنه، وتأميم السلطة، وديمقراطيتها، ودسترتها وإقامة عقد عربي يقرر الحقوق السياسية والاجتماعية لكل عربي على مجمل تراب الوطن العربي الكبير. على هذه الأصول الرصينة والشامخة، وفي إطارها تحددت حوامل هذه الدراسة ومناطها وبواعثها القريبة والبعيدة. ذلك أننا بحاجة إلى الحفر المعرفي الجاد عن تلك النواهض والميكانيزمات والدوافع في تراث أمتنا ذات السمة الإنسانية والخلقية والقيمية والتي تكفل بث الحيوية في جسد أمتنا، ودفعها إلى ساحات التقدم والازدهار. لقد تعددت الوصفات والحلول المقترحة والاجتهادات على صعيد هذا الخطاب الحضاري، ومن ثم فقد تعددت الرهانات: • نقد العقل السياسي • نقد الفكر العرب • نقد النظام المعرفي • نقد المنظومة الدينية • نقد النظام الاجتماعي • نقد عقل الدولة، وغير ذلك من المسائل. وفي نظرنا إنه إذا أردنا أن نصنف الأولويات في هذه البيبلوغرافيا "الجدول"، الأخيرة، فإننا نضع مفهوم الدولة في النواة النووية من هذه المسألة، لسبب بسيط هو أن الدولة هي إطار الجماعة، والاسمنت الجامع لكل ما هو مشترك، والمكوك الذي ينسج القيم العامة، أجل إذا كان لفاعلية بشرية أن تؤدي دورها على صعيد الصيرورة التاريخية، فالدولة هي الحضارة بأسرها، وقد أفصحت عن نفسها في مؤسسات. ولكن أي جانب من الدولة يتعلق بمشروعنا النهضوي، هل هو خطاب سياسي، أم مفهومية الدولة ونظريتها العامة القائمة على الفصل بين الحاكم والمشروع الحضاري وعدم ذوبان الجماعة في الفرد، واعتبار الحاكم وكيلاً يمارس السلطة باسم الأمة. لقد كان هنالك تداع ذهني وكان الخيار هو دراسة مفهومية الدولة في إطار فكرة المعاصرة والأصالة العربية، وقادنا التداعي إلى ذروة شاهقة من ذرى تراثنا العربي، إنها التجربة النبوية في يثرب، أي المعالجة النبوية لفكرة الدولة كأعظم نموذج للعمل العربي التاريخي، وكأعظم محرك للوجود والكينونة العربية في التاريخ، وكأعظم تحقق للجدلية الثلاثية: • الوحي • الحقيقة • التاريخ العربي بيد أن الكلام على العقل السياسي لهذه التجربة يقودنا إلى مواقعية متعددة الشعاب والاتجاهات، وهكذا كان لابد من تضييق دائرة الخيار على صعيد تلك التجربة الفذة، وكان القرار الأخير يستهدف دراسة الميثاق السياسي لهذه التجربة، أو ما أسمي الصحيفة أو الكتاب. هذه قصة اختيارنا لهذا البحث، وذلك سببه، وهذه وجهته ومناطه وبواعثه يحدونا في ذلك أن أمتنا العربية أمة نصية، منذ أن تحلقت هذه الأمة حول جذر أب العرب إبراهيم، أي حول صحفه: "إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى" [الأعلى: 19] ومن جهة أخرى، فإذا كنا قد أجبنا على السؤال الأول، لمَ هذا الخيار، يجب علينا أن نجيب على سؤال ثان، هو، لماذا هذه التسمية "ميثاق الرسول"؟ وما هي الأسس المعتمدة في ذلك؟ في الحقيقة لقد انطلقنا في هذه التسمية، وتعاملنا مع أعماق حضارتنا ومع ماهيتها وطبيعتها الذاتية، ذلك أن أبرز ما يميز هذه الحضارة قيام الفرد كقطب ومؤسسة قائمة بذاتها، وهو الأمر الذي يستتبع أن يكون لهذا الفرد مكنة التعبير عن هويته وذاتيته بأواليات وأجهزة وتقنيات متعددة أبرزها العقد، وهو الأمر الذي حدا Venture للكلام في مقابل الجماعية الغربية Occidental Corporation. فالمفهومية الأولى ترجح دور الفرد، والثانية ترجح دور الوظيفة، في الأولى يلعب اقتناع الفرد الدور الأول، وفي الثانية تلعب مواصفات الوظيفة وواجباتها الدور الأساسي. وبالطبع فلا مجال في هذه المقدمة لدراسة وظيفة العقل العربي الإسلامي، وكل ما يمكن تقريره والتأكيد عليه هو ما أطلقنا عليه في أبحاث هذا الكتاب، ميثاقية العقل العربي الإسلامي، تلك الميثاقية التي تمتد إلى أغوار روح هذه الأمة. وأساس هذه الميثاقية، وجذرها العميق، هو ذلك الميثاق الأبدي الأعظم المفتوح على الأزل، والذي يربط بين الله وأبناء آدم. إن حكاية هذه الميثاق التي تكملها قصة سقوط آدم تعري وتكشف جوانب أساسية من الأنطولوجيا والأنتروبولوجيا القرآنيتين، ومن القيم الأخلاقية المؤسسة عليها، وهذه الحكاية الموجزة نجدها في الآية القرآنية القائلة: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" [الأعراف: 172]. إن عقد الإيمان أو الميثاق يرتكز على شهادة شخصية تجعل وعي الإنسان مرهوناً من الناحية الأنطولوجية، هذا في حين أن سقوط آدم يعني أن العقد لا يمكن الوفاء به إلا عبر النضال المسخر ضد إغراءات الشيطان ومحاولاته لحرف الإنسان عن الطريق القويم، وهذا يتطلب من الإنسان المقاومة العنيدة والوعي الأخلاقي الراسخ. ثم ماذا تعني بالنسبة للمسلم "شهادة أن لا إله إلا الله"، إن استخدام ضمير الشخص الأول في صيغة المفرد تلزمني شخصياً بعقد الإيمان الذي يجسده وعيي باستمرار لكي تكون كل أفكاري، وكل هواجسي، وكل أعمالي متوافقة مع إسلامي "خضوعي وطاعتي"، وهكذا نجد أن الشهادة ترسخ الوعي الفردي بصفته حرية مطيعة ومشروطة، بمعنى أنني أحمل الشهادة بحرية لأنني استنبطت بداهة ما أنا شاهد عليه، ومؤتمن عليه من قبل الكلام المطلق. وهذه الميثاقية ليست ذات جذر وإطار انطولوجي فحسب، وإنما تحكم إندراج وانخراط المسلم في المجتمع والتاريخ، الأمر الذي حدا الإمام أحمد بن تيمية في كتابه السياسية الشرعية لأن يجعل منها نظرية عامة تغطي كافة أعمال الإنسان، مستنداً في ذلك إلى الأمانة التي عرضها الله على الجبال فأبت حملها، وحملها الإنسان. وهكذا إذ انخرط بحياتي في القتال، أو اقرأ حديثاً من أحاديث الرسول، وإذ أشهد في المحكمة أمام القاضي، فإنني في كل مرة أقوم بتأدية الشهادة، أي التجسيد الكامل للحق أو إحقاقه في الوجود الدنيوي الأرضي. وفي الحقيقة إن دورات النبوة، وما يتفرع على ذلك من تنشيط الوحي، هذه الدورات ليست إلا تجديداً لهذا الميثاق الأعظم كما أوضحنا مفصلاً. وفي نظرنا فالأسلوب الذي اتبعه محمد عليه الصلاة والسلام في اصدار الميثاق السياسي هو الأسلوب نفسه المتبع في الميثاق الأعظم الإيماني، فهنا وهنالك -مع الاختلاف في الطبيعة والجوهر لا في الشكل والمظهر– كانت مبادرة من محمد × إلى الناس الأولى إيمانية روحية، والأخرى برنامج ومشروع سياسي "الصحيفة". ومع هذا الاتفاق الشكلي، ومع أن النص الثاني "الصحيفة – الميثاق" بنزولها من النص الأول "القرآن" منزلة البنوة، بصدورها عن روحه، مع كل ذلك، فهذا الميثاق السياسي، لا يعدو أن يكون اجتهاداً سياسياً صدر عن محمد × بصفته سلطة سياسية لا بصفته نبياً أو رسولاً، أي أن هذا الميثاق يتسمُ بكل ما يتسم به الفعل البشري، هذا فضلاً عن أن هذا البرنامج المقدم من محمد تمت مناقشته من قبل ممثلي المؤمنين في منزل أنس بن مالك كما شرحناه مفصلاً. وعلى هذا الأساس، فقد رفضنا أي دور للفاعل الأول "الله" في الميثاق، أي رفضنا نظرية تسييس المتعالي، واستندنا في ذلك إلى نصوص الصحيفة التي قامت بتنظيم الاختصاصات على ما هو معهود في الدساتير الحالية، حيث اقتصرت حاكمية "الله" على التشريع كأداة للدولة ليس إلا، أي دون الاختصاصات الأخرى. ومن جهة أخرى، فقد رفضنا نظرية التعالي بالسياسة، وطبقنا ذلك على ميثاق الرسول× ، اللهم إلا الامتياح من روح القرآن وفلسفته من خلال الإرادة البشرية الوضعية للرسول× وحوارييه. وهنالك ملاحظتان دللنا بهما حول هذه الميثاقية التي انفردت بها أمتنا، الأولى هي أن الله تعالى – مقابل التزام المؤمن بعدم الشرك– يسربل ويسبغ ويغدق على المؤمن اللطف والحماية والتأييد، وهو ما أسماه الدكتور أرغون "دين المعنى"، أي تلك المديونية التي يلتزم بها الله سبحانه وتعالى لصالح المؤمن. هذه هي الجذور الانطولوجية والأخلاقية لهذه الأمة التي اعتمدت الميثاقية أساساً وجوهراً ومنطقاً، وهو ما نجده في التطبيقات القرآنية المتعددة لذلك. ولكن ما هي أهمية هذه الوثيقة "الميثاق – الصحيفة"؟ في الواقع إننا نسجل لهذه الوثيقة الدور المثلث الشعب: فهي من الناحية "الإنسانية – هيومانيزم" طفرة نوعية لتعزيز حقوق الإنسان، وترسيخ حرياته وكرامته. وهي من الناحية الدينامية التحريضية، أعظم انبثاق تاريخي تتفجر عنه طاقات الروح. وإذا استعرنا من هيجل جهازه المفهومي "فينومينولوجيا الروح"، أمكننا القول إن تجربة المدينة المنورة هي أعظم تجل للروح في كدحها وارتقائها ومعراجها ومخاضها ومغامرتها من أجل الحق والحقيقة. وهي بهذا الوصف ليست عربية إسلامية فحسب، وإنما تجربة مهداة للعالمين. وهذه التجربة هي –بالنسبة للأرض العربية– أول تحقق للدولة بالمعنى المفهومي الفني والدقيق الذي يعني الفصل بين شخص الحاكم والمشروع الحضاري، وهذا ماعبرت عنه الصحيفة بقولها: "وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد". ومن جهة أخرى، فهذه الدولة تأسست على قاعدة سوسيولوجية "اجتماعية" عربية، فالعرب هم الذين حققوا مادتها، وفي الوقت نفسه فهذه الوثيقة هي اجتهاد عربي، ومحمد × هو إمام المسلمين، وهو كإبراهيم وعلى جذر إبراهيم، أب العرب، وما أثر عنه، تراث للعرب والمسلمين. ولقد عكس هذه الحقيقة رشيد رضا بقوله: "فإسلامي مقارن في التاريخ لعروبتي، قلت إنني عربي مسلم، فأنا أخ في الدين لألوف من المسلمين من العرب المسلمين، وغير المسلمين. كما عكسها أمين نخلة العربي النصراني بقوله: "وكأن الإسلام إسلامان، واحد بالديانة وواحد بالقومية واللغة، وكأنما العرب جميعاً مسلمون حين يكون الإسلام اهتداء بمحمد ×، وتمسكاً بقوميته، وكلفا بلغته. وهي بالنسبة للمسلمين الحدث التأسيس التدشيني والأصل الأول الذي يجسد وعي الرسول وصحبه للتاريخ الأرضي، منغرسين في تلك اللحظات الهامة من الحياة. وهذه التربة محاطة بالهالة والضمانة الأنطولوجية بسبب قيادة الرسول وهيبته اللدنية، والكارزما التي تمتع بها، فهو ذلك التلفاز الذي يشع بالفضل والفضيلة والإيمان والحب والرحمة بمواطني دولته، وبهذا المعنى، فليس هنالك مقارنة بين تجربة محمد والأدب السياسي اليهودي، حيث الأنبياء ملوك، أما رئيس دولة المدينة المنورة، فهو من المؤمنين وإليهم، عزيز عليه عنتهم، حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم، "بالمعنى التضميني للآية القرآنية". ومن هنا فالمسلمون يعتبرون التجربة النبوية في المدينة L,experience de medine ذروة المشروعية والنموذج الأمثل للعمل التاريخي، أي النموذج الذي انتج أعظم مثال للاحتذاء والامتثال والقيم للأخذ به إسعاداً وإنهاضاً للأمة. وعلى هذا الأساس فإن جميع المحدثين يعتبرون الصحيفة مادة لعملهم، وقد أدرجوها في مصنفاتهم –كتب الحديث- "مسلم والبخاري وغيرهم". وإذا كانت المواقف السابقة من الصحيفة لا تخلو من بعد إيديولوجي، فالموقف المعرفي، والأهمية العلمية تحدونا إلى قراءة هذه الوثيقة التي وصفت بأنها فريدة من نوعها، ولا تقدر بثمن. فما هي هذه الذرى المعرفية في هذا الميثاق؟ في الحقيقة لامجال هنا لعرض أمهات هذه القضايا التي عرضنا لها في صفحاتها من الكتاب، وإن كنا نسجل النقاط الشامخة الآتية: أولاً: إن تسجيل هذه التجربة السياسية في نص مكتوب، ثم نشره وشهره بالطرق القانونية العلمية والوضعية، هذا الأمر يعتبر انتصاراً للعقل المكتوب المعقلن الذي يعتمد التدوين تجنباً لمتاهات العقل الشفوي، وعدم دقته وغموضه، مع التنويه بأننا أثبتنا أن هذا العقل المكتوب لم يكن غائباً عن حياة الأمة العربية قبل الإسلام. ومن جهة أخرى فالقواعد المسنونة –كالصحيفة– تستجيب للمراحل الثورية، أي إلى انبعاث الإرادة وتفجر العقل الإنساني، خلافاً للعرف الذي هو أداة التحولات البطيئة. ثانياً: الصحيفة هي شهادة ميلاد أول دولة عربية بالمعنى العلمي الفني الدقيقproprement dit a لهذه الكلمة الذي يعني عدم ذوبان المشروع في شخص الحاكم، وفي الوقت نفسه فهذا الميثاق هو شهادة ميلاد الأمة الإسلامية كحقيقة إيمانية، بدليل أن الدولة، انبثقت من المؤمنين والمسلمين، "إنهم أمة واحدة من دون الناس". ثالثاً: لقد قامت دولة المدينة المنورة على أساس سياسي لاديني بدليل أن الأمة السابقة الذكر، أدخلت في تكوينها المسلمين، وهم الذين ساندوا الدولة بسيوفهم، لا بإيمانهم. وهذا يعني أن تلك "الدولة" ميزت دون أن تفصل بين العقيدة والدولة، وبمعنى أوضح فالمواطنة، وفقه المواطنة الذي يكاد أن يستغرق نصوص الصحيفة، هذا الأمر يقوم على أساس العلاقة مع الأرض، بدليل أن هذه الدولة استوعبت بعض المشركين. ولقد لخص أحد المفكرين جوهر هذه الدولة بأنها تنظيم للعلاقة بين اليهود والعرب في الإطار الإقليمي. رابعاً: اعتنقت الصحيفة فكرة التعددية السياسية، وهي تعددية ترقى إلى مستوى المساواة الكاملة بين المؤمنين واليهود، وهو ما عبرت عنه الصحيفة بقولها: "من تبعنا من اليهود، فإن لهم النصر والأسوة". ولقد قلنا تعليقاً على ذلك إن الصحيفة لم تطبق منظومة أهل الذمة القانونية، بل الثابت أن اليهود شاركوا –أهل الصحيفة– المؤمنين في بعض المواقف الحربية. خامساً: لقد أدركت الصحيفة الفاعل الجغرافي ودوره في تقرير الحقوق والواجبات، وارتباط ذلك بسلطة الدولة وسيادة قوانينها، وهكذا فقد كانت الصحيفة حريصة على تحديد هذا الإقليم، وضبط نطاقه وعناصره، وتنظيم الدفاع عنه. لقد أقامت الصحيفة صرحاً شامخاً لحقوق الإنسان الأساسية وحرياته العامة، وبذلك فهي تعتبر أول إعلان –على صعيد التاريخ البشري– لحقوق الإنسان، ولكن هذا الإعلان يختلف عن الإعلان الصادر عام 1945م، وغيره، فرئيس اللجنة التي أصدرته ايلياتور روزفلت ما فتئت تشن الحملات المسمومة لصالح الصهيونية. ولم يقتصر الأمر على الحقوق المدنية والطبيعية، بل تعداه إلى تقرير الحقوق الاجتماعية "فداء الأسرى – وكفالة الفقراء". وعلى هذا الأساس فقد وصفنا هذه الدولة بأنها دولة حارسة gendarme إضافة إلى كونها دولة حانية "تدخلية" providence. سادساً: لقد اقترح الرسول الدستور وقدمه كمشروع سياسي، حيث قام المؤمنون بإقراره، وهو ما يتأكد من قبول الصحيفة، "لا يحل لمن أقر بالصحيفة، وآمن بالله ...". وهذا يعني أن أساس الدولة بشري المحتد والمنبت والطبيعة والجوهر، وليس في هذه الدولة أي بعد إلهي ديني. وفضلاً عن ذلك فقد أرست ممارسة السلطة السياسية على مبادئ وأصول الحكم: • العدل • المساواة • الشورى • التضامن • الخضوع للسلطة العامة سابعاً: لقد كشفنا عن البعد المعلمن للصحيفة، قاصدين من العلمنة مدلولها الإسلامي الذي يقدس العقل الإنساني ويعززه ويكرمه، ويعطيه حريته ضمن حدود العقل المسدد، والعقل المؤيد، ومع ذلك فقد خلقت الصحيفة نوعاً من التمفصل بين الذرى الآتية: • دين • دولة • دنيا • أخلاق • سياسة لقد ركزنا على إبراز المحورية الأخلاقية القرآنية كركيزة للظاهرة القانونية التي هي ظاهرة قائمة في ذاتها مستقلة في ماهيتها، وإن كانت تعتمد الأخلاق رافداً ومنشطاً. ثامناً: لم يكن عبثاً أن تصف الصحيفة مرة واحدة محمداً كنبي وأن تردد وصفه كرسول، وقد فسرنا ذلك بأن الاكثار من ذكر محمد كرسول يتفق مع الطبيعة السياسية والقانونية للصحيفة، في حين أن نعته كنبي دلالة على هذا الدور الرمزي لرئاسة الدولة. فالنبوة قيادة روحية وتاريخية وإيمانية، هي استاذية لتعليم الحقيقة، في حين أن الرسالة تعني التكليف، أي التقوى الاجتماعية والتقوى القانونية، والتقوى الأخلاقية والإيمانية، ومن هنا فالرسالة تتفق مع المواقف القانونية والسياسية في الصحيفة. تاسعاً: لقد عرضنا بالتفصيل للأهلية الصياغية والفنية في الصحيفة، أهلية تتفق مع الفن القانوني المعاصر، مثل التعبير عن الشخصية المعنوية، وترتيب جزاء مادي للقاعدة القانونية، ومثل التعبير بلغة دقيقة وموجزة وواضحة وبعيدة عن الحشو والإخلال، ومثل قيامها على نظام التقسيم والتبويب والفقرات، وغير ذلك من أساليب الصياغة. عاشراً: عل الرغم من اتهام الإسلام للجاهلية بالوحشية والظلامية، وما يتفرع على ذلك من محاولته تسفيهها وتهميشها ومحاصرتها، على الرغم من ذلك، فالإسلام محاولة للتجاوز والارتقاء بالتفاعيل الجدلي الديالكتيكي. ذلك أن الفرق واضح بين اليقينات الدوغمائية القائمة على فكرة السلب المطلق والجمود، وبين نهج التقدم والارتقاء في الإسلام. فهذا الموقف الأخير أملى على الإسلام التعامل مع الصالح، مطلق الصالح، حتى ولو كان جاهلياً، وهذا هو موقف الصحيفة التي أقرت في بنود واضحة الإبقاء على نظام المعاقلة وفداء العاني. هذه صورة مجتزأة ومبسطة عن أمهات القضايا التي عرض لها ميثاق الرسول، ولكن تبقى الفائدة مرجوة فيما لو حددنا المنهج المتبع في تمحيص هذه الوثيقة، وتشريح جثتها، وإجراء الحفر الإركيولوجي على جسمها، فما هو هذا المنهج؟ لابد من التنويه، بادئ ذي بدء بأن كل منهج يصدر عن رؤية، والوعي بأبعاد الرؤية شرط ضروري لاستعمال المنهج استعمالاً سليماً مثمراً ... الرؤية تؤطر المنهج، تحدد له أفقه وأبعاده، والمنهج يغني الرؤية، ويصححها، وعلى هذا الأساس، فقد وسمنا هذا الكتاب بعنوان "قراءة معاصرة": فهي قراءة، وليست مجرد بحث أو دراسة، على اعتبار أن البحث أو الدراسة يقتصران على التجميع والتحليل، أما القراءة فهي محاولة لتأويل أشمل يعطي المقروء معنى، أي يجعله في آن واحد ذا معنى بالنسبة لمحيطه الفكري، الاجتماعي، السياسي، كما يعطي هذا المعنى بالنسبة لنا نحن القارئين. وهي معاصرة تحرص على جعل المقروء معاصراً لنفسه "المعنى المتزامن synchronique" على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي، إلى مجال اهتمام القارئ، الأمر الذي يسمح بتوظيفه من طرف هذا الأخير في إغناء ذاته، وحتى في إعادة بنائها. هذه القراءة، وتلك المعاصرة حدتنا إلى أن ننظر إلى الميثاق على أنه ليس مجرد "عقد للألفة بين المهاجرين والأنصار"، بل يفيض بالذرى الخالدة القانونية، والخلقية، والإنسانية. وعلى هذا الأساس، فقد نقلنا هذه الوثيقة إلى أوسع آفاق الأفكار الدستورية المعاصرة، وحملناها –دون تمحل أو إبتسار– القيم الإنسانية الخالدة. هذا ولقد اتبعنا في هذه القراءة المعالجات الآتية: 1 - المعالجة البنيوية: لقد قلنا إن هذا الميثاق هو مشروع سياسي مقدم من الرسول من أجل المصادقة عليه من قبل المؤمنين، فهو إذن تتحكم فيه وتسوده ثوابت تفكير الرسول، أي أحكام الذكر الحكيم. وهذا هو المذهب النصي texetualite الذي يحاول أن يدرس –كمنظومة واحدة– الكتلة النصية التي تعالج موضوعاً واحداً. والمادة الابستمية "المعرفية" للصحيفة واضحة في إحالتها إلى القرآن واعتمادها له، وتضمينها لأفكاره وعباراته، ومفاهيمه. وعلى هذا –والصحيفة تنزل من القرآن منزلة البنوة– فقد اعتمدنا بصورة واضحة المعالجة البنيوية، بالمعنى السالف الذكر. 2 - المعالجة التاريخية: إن هذه الوثيقة –في الأعم الأغلب– نص قانوني، والنص القانوني –كما نعلم– تتحدد طبيعته ومشروعيته في لحظة صدوره، وعلى هذا كان لابد من المعالجة التاريخية التي تربط فكر صاحب النص بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والإيديولوجية والسياسية والاجتماعية، أي بالكلية الحضارية "الإنتروبولوجية". وبالطبع لم يكن المقصود من هذه المعالجة التاريخية دراسة الأبعاد العميقة للإطار التاريخي بقدر ما نقصد دراسة وقائع التاريخ على ضوء أفكار النص المدروس، أي بما يتيح لنا فهم الأفكار، ليس إلا. وربط الصحيفة بالتاريخ يعني إقرار المشروطية الاجتماعية الواقعية والظرفية لهذه الوثيقة بما يتفرع على ذلك من نتائج أهمها دحض المنهج المثالي "السلفي" الذي يميل إلى التعالي بهذه الصحيفة، ورفعها فوق التاريخ والزمن الأرضي. 3 - المعالجة الألسنية: وتتميز هذه المرحلة بقسمات أهمها: أن أعمالنا، أفكارنا، تفسيراتنا كلها لانهائية وغير حاسمة. ولاشك أن هذه المطابقة ذات شأن بعيد الأثر في الحياة الإنسانية، على اعتبار أن الوظيفة الأساسية للغة هي حمل الأفكار، لاسيما أن نصوص هذه الوثيقة تنطوي على عدة منظومات سيمانتيه "لغوية"، مثل الأجهزة المفهومية "ذمة الله، معاقله"، ومفاهيم الجماعات: "أمة – كفار - مشركين"، وغير ذلك، وهكذا فقد بدت لنا الحاجة ملحة لتفكيك معاني ألفاظ الصحيفة، وإضاءتها وسبر مضمونها. 4 - المعالجة بالمقارنة: المقارنة –وهي إحدى المناهج وطرق البحث في العلوم الإنسانية– تثري الظاهرة توضيحاً، وتغنيها تحليلاً، وتساعد على وضع الحدود الخارجية لها. ونظراً لأهمية المقارنة في تشكيل المفهوم العلمي، فقد وجدت من الضروري بمكان إجراء مقارنة بين الظواهر القانونية في الصحيفة، وبين ميثلاتها في التاريخ القانوني الأوروبي، حيث اتضح لنا السبق الزمني الطويل بالنسبة لمفاهيم الصحيفة. 5 - المعالجة المعرفية لا الإيديولوجية: قلنا إن المعرفة هي البوابة التي تعبر منها الأمة لتستشرف آفاق الحضارة والتقدم. ومع ذلك، فنحن لاننكر دور الإيديولوجيا في دفع عجلة التقدم والصيرورة لاسيما أن هدف الإيديولوجيا الأخلاقي هو تحديد أهداف الأمة، وتجييش وتعبئة الإرادة العامة من أجل تحقيق هذه الأهداف. وهكذا تتضح أهمية الإيديولوجيا لاسيما إذا اعتمدت العلم والمعرفة أداة ومنطلقاً في إنتاج الأمة لتاريخها ومستقبلها وأملها المرجو. وأبعد من ذلك، فالمعرفة نفسها، لايمكن أن تتجرد من بعدها الإيديولوجي، بل ووراء كل نظرية دافع فلسفي إيديولوجي سياسي. ومع ذلك فإننا نعود لنؤكد أن حل الإشكالية الإيديولوجية لايتم إلا بحل الإشكالية المعرفية، أي بعد إنجاز تراكم معرفي في حياة الأمة، بل كيف بنا نتصور حل أية إشكالية والسيطرة عليها إلا بعد معرفة القوانين التي تحكمها وتتحكم بها، أو كما حدد كولومبل أسلوب امتلاك الإرادة السياسية بقوله: "لكي نمارس العمل السياسي ينبغي علينا أن نعرف أولاً، وبعدئذٍ أن نريد، وأخيراً أن نستطيع التنفيذ. وتوطيداً لما ذكرناه، فقد حاولنا أن نعالج هذا البحث بفكر نقدي علمي وضعي تحليلي معرفي بعيداً عن الروح المتخشبة والضيقة للإيديولوجيا بثوابتها المحنطة، ويقينياتها الدوغمائية، وفي الوقت نفسه بعيداً عن أسلوب التهويل والتبجيل والتقديس الذي يميز بعض الاتجاهات الاسلاموية، "نقول الإسلاموية لا الإسلامية تعبيراً عن هذه الروح التبجيلية لا العلمية". وبالطبع، فقد كانت هنالك أخطاء، وقد يكون مرد ذلك أننا نعالج قارة معرفية جديدة، لما تكشف جوانبها وتسبر أغوارها، هذا فضلاً عن أن هذه القارة مفتوحة للكثير من الاجتهادات، متموجة متحركة حمالة للكثير من المعاني، هذا فضلاً عن أن مقاربة هذه الوثيقة ومعالجتها إنما يتم بالاستبصار القانوني المستعين بالحفر المعرفي التاريخي، ونحن –بكل تواضع– لانقبض –بسبب اختصاصنا القانوني– على المعرفة التاريخية بالشكل المرجو، وفي نظرنا إن معالجة هذه الوثيقة لايمكن أن تؤتي أكلها إلا من خلال ورشة علمية متعددة الاختصاصات، ومن ثم فإن الملف التاريخي هو الذي يضيء الطريق أمام التحليل القانوني السليم. هذه هي أسباب، دراستنا لهذه الوثيقة التي تحتل واسطة العقد في أدبنا السياسي، والنموذج المحرك الناهض الرافع لكل تقدم وازدهار، إيماناً منا بأن الوفاء للأسلاف لا يعني الحفاظ على رمادهم، وإنما نقل اللهب الذي أشعلوه، على حد تعبير جان جوريس. وهذه هي بواعث هذه الدراسة ومناطها ووجهتها، يحدونا في كل ذلك –وكالتزام أخلاقي– شرف الانتساب إلى هذه الأمة وتاريخها وتراثها وحاضرها وماضيها، ووعياً منا بأن هذه الأمة تكبر وتعظم بعظمة تراثها وثقافتها، بل ووعياً منا بأن قدر كل فرد ومصيره وعظمته مرتبط بعظمة أمته. ذلك أن قطرات الماء تتبخر صاعدة من البحر من أجل أن تؤدي رسالتها المرسومة لها، ولكنها وفاء، وبحثاً منها عن حقيقتها الكبرى، حيال ذلك تعبر المسافات الطوال لترمي نفسها في أحضان الأم البحر، ففيه منتهى أمرها، وتجلي عظمتها، أو كما عبر عن هذه الحقيقة الشاعر عمر الخيام بقوله: إن تفصل القطرة عن بحرها ففي مداه منتهى أمرها