لقد شعرت بدافع الوعي والرؤية والاستشراف لأن أولي أهمية خاصة ومكاناً مرموقا للفاعل الروحي والأخلاقي في رفعة هذه الأمة وازدهارها مصداقا لقول الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإذا هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

لقد تفحصت مليا (( الوعي بالتاريخ )) فلمست هذا البعد الكبير الذي تلعبه الأخلاق كمرقاة للأمة والحياة , وهنا تذكرت قول المفكر العربي مالك بن نبي : لا يثب التاريخ و ينهض إلا بدخول عنصر الروح فيه ethos إلى منظومته القيمية واعتباره قيمة مركزية حتى إذا سيطر العقل أخذت الأمة تراوح مكانها تمهيداً مرحلياً لاقتحام الغرائز والنزوات , وآنئذ تأخذ الحياة بالانهيار وتكون الهاوية وما أدراك ما الهاوية.
لقد دخلت الروح تاريخنا مع النبي العربي محمد  ، ووضعت دعائم حضارتنا في الحقبة الممتدة بين غار حراء ومعركة حطين ، ثم أخذ السلطان والصولجان يشتق من هذا النهر العظيم الإسلام " قول الخليفة الأواه الأواب المنيب عمر بن عبد العزيز " جدولاً بعد جدول حتى كاد أن ييبس هذا النهر العظيم .
واختلط العرب المسلمون في بحران الشعوب يشربون قيمهم وعاداتهم ، متخلين في ذلك عن مروءتهم ورونق دينهم ، ولعب السلطان دوراً كبيراً في ذلك حيث أخذ المسلمون ينهلون من مرايا الملوك وآداب السلطان وأخلاق الطاعة عند الفرس واليونان ، ثم انهالت عليهم قيم الركاكة والزهد فاستسلموا للكثير من أخلاق التصوف (أخلاق الفناء) .
بيد أن القيم الإسلامية والقيم العربية (أخلاق المروءة) ما فتئت تثب وتشد عضد الأمة فتمتشق سيف الإسلام من غمد العروبة متمسكة بمعاقد العزة والكرامة والوجود .
وقد قامت المفكرة دوروتيا بإحصاء الثورات الشعبية التي هبت من صفوفنا في وجه السلطان فبلغت مئتين وثلاثين انتفاضة قامت بها الفتوة العربية الإسلامية إضافة إلى ما فعله الفتيان والشطار والعيارون والأخويات وغيرهم ، كل ذلك بقيادة الفقيه العضوي الموقع عن رب العالمين في وجه الموقعين عن السلاطين , حسب تعبير ابن القيم في كتابه
( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) .
لقد شكل هذا المركب الحضاري ( المؤلف من أخلاق الإسلام وأخلاق المروءة ) وجدان الأمة وضميرها ووعيها الجمعي وناموسها الاجتماعي وموسوعتها العلمية ونظرتها إلى الوجود وأريجها الروحي وزفيرها المقموع وأقاصيصها الشعبية ومعاقد عزها ورجائها وأملها.
ولا عجب أن نرى الالتفاف حول هذا الجسر الحضاري وتبلور هذا الالتفاف حول (علوم الملة ) أو ما يسمى في النظرية العامة للثقافة بثقافة اللباب .
هكذا حاول وعينا في هذا الكتاب يجهد باحثاً عن الأصالة فوجدها في الأخلاق الإسلامية وتوأمتها أخلاق المروءة فهذان الجذران الأخلاقيان هما جناحا الطائر للتحليق بالأمة نحو الأمل المنشود .