تؤكد أدبيات علم اجتماع المعرفة أن الجماعة البشرية لا تستطيع فقه واقعها والتبصر به إلا من خلال ذاتها وآلياتها في ذلك المخيال العام أو الضمير الجماعي، وهذا الضمير يتكون بصورة بطيئة وتلقائية ومستمرة وغير محسوسة، نتيجة تراكمات وخبرات حياتية ومعرفية وتجارب عاطفية وتاريخية وسوابق عقلية وسلوكية وغير ذلك.

إن الفارق بين الاسلام والعلمنة هو ذلك السقف الإلهي الذي رافد إضافي لصالح الانسان، فالإسلام يتطابق مع العلمانية لجهة تسديد الإنسان وتعليته وتعزيزه وتكريمه، ومن جهة أخرى فالمفروض بالعلمانية أن لا تعارض الإسلام طالما أنه قارة ضخمة لإنتاج المعنى والقيمة في جوهره وذاته بامتياز.
وكلمة العلمنة تثير احياناً النفور في نفوس المسلمين للوهلة الأولى، إنهم يخشونها كثيراً، لأن تلك العلمانية انتهت فلسفياً إلى الوضعوية، كما انتهت على صعيد الاقتصاد إلى الرأسمالية، وعلى صعيد المجتمع إلى الفردية، وعلى صعيد الأخلاق إلى الهيمنة، وعلى صعيد الدين إلى الإلحاد.
ومع ذلك يجب فتح فضاء جديد للعمل التاريخي مع الغرب، فضاء غير محكوم بأيديولوجيا الكفاح، وبالهيمنة الاستعمارية وبالعصبية القومية أو بالحشوية الاسلامية، وإنما يحمل هم الصيرورة الإنسانية الكبرى وخلاصها من التعاسة المادية النفسية والروحية والأخلاقية، وما يتفرع عن ذلك من ترسيخ حقوق الإنسان الأساسية والاقتصادية وحرياته العامة وديمقراطيته، أي ترسيخ الأنسنة بالمعنى العام والموسع، وباتجاه نقطة التقاء المصالح والهم المشترك المحمول على الإرادة الحرة المحررة من دواعي القوة والاستكبار في الأرض.
على هذه الأرضية الرصينة يمكن الحديث عن رفع القطيعة القائمة بين الإسلام والغرب، وكسر الحواجز السميكة بينهما، ونسج عرى التواشج والتواصل.
وبالطبع فالمقصود هنا بالإسلام من ضفتنا فالإسلام العقلاني المتفتح المتسامح، وليس إسلام الجمود والحشوية، أو الإسلام الإقنومي السكوني الدغمائي الجوهراني القابع فوق التاريخ والمتأبي على كل إصلاح وتطور.
وهنا نحن أمام بحث رزين من مفكر يعرف العلمانية بأنها يد العدالة الإلاهية التي تسحب غطاء الدين عن السلطة، وتجعلها تقف وحيدة في العراء أمام شعوبها، ليس لها ما تستر بها عورتها سوى كفاءتها وشفافيتها وعدلها واحترامها لحقوق مواطنيها ودفاعها عن أمن الأوطان وسلامتها، فيرتفع مستوى أدائها ولا تصبح مرتعا للصوص والأفاقين.