كتاب له خصوصية كبيرة...فهو يتحدث عن الإنسان وكرامته أينما وجد فلقد قال المولى ...ولقد كرمنا بني آدم...بني آدم كلهم ولم يستثني.

تعامل الإسلام مع الكرامة الإنسانية منذ اللحظات الأولى ونرى ذلك متناثراً بين ثنايا الآيات القرآنية مرسخة ذلك بحكم ومرسوم إلهي " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات ". إن نشأة الإنسان بالنفخة الإلهية (من روح الله) لا يعني أن الإنسان خلق شبيهاً بالله، مماثلاً له، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء ، وتبرز التجليات الإنسانية في البارنوبا (المشهد) الإسلامية في مظاهر متعددة، منها أن سيدنا آدم وأمنا حواء أكلا من الشجرة، والإسلام يصور المشهد بأن الفعل تم عن غفلة وخطأ، ولكن الله تعالى، الذي خلق الإنسان من تركيبة الخير يثوب على آدم وزوجته ويكلفهما بعمادة الأرض وإشادتها سنداً لهذه الحقيقة الخيرة، وهذا المتبني الأساسي الذي خلق على أساسه الإنسان وسنداً لما تقدم تبرز مظاهر التكريم في الحلقات الآتية: الإنسان خلق بنفخة إلهية – الإنسان كليم الله – الإنسان خليل الله – الإنصاف بالعلم، وتفضله على الملائكة بذلك. ولنعرج ثم نقف قليلاً أمام دراما الأخوين : قابيل وهابيل وعدم بسط هابيل يده لقتل أخيه بدافع هذه النية الداخلية الخيرة التي حقق الإنسان عليها وهنا يقف القلّم وتجف الصحف ونكتفي الآن بما دوناه قاسمين المجال للمحور الثاني : الشأن الإنساني العام. فهذا الشأن الإنساني العام تعامل مع الصميم الإنساني في الأوصاف الآتية : الجوهر الإنساني – الحقيقة الإنسانية – الطبيعة الإنسانية – آدمية الإنسان إنسان الفطرة الخ... قال (ص) : لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله في دم سفك بغير حق. وأبعد من ذلك، فعندما يتصارع ذئبان، فمن يشعر بضعفه ووهن قوته واقتراب هزيمته، يتراجع بجفوف مرتخية، ماداً عنقه نحو الأمام باتجاه الأسفل معلناً استسلامه. إذن فكيف بنا أن نبرز تلك التجليات الناصعة للجوهر الإنساني وان نجد تلك الومضة المميزة في قانون حمورابي الذي حمل أسمه بعد دعوته إلى تحرير الأسرى مقابل قربه وبدأ بما معناه : أقرر هذا القانون للحؤول دون ظلم القوي للضعيف. وخلال إحدى الحفريات الأثرية في سوريا ثم العثور على بلاطه تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد تضمنت ((ضرورة تقديم الطعام للعدو)). والحثيون كانوا لا يدكون الحواضر المعادية التي تستلم ولا يستعبدون أو يذبحون أو يشوهون أو يمثلون بالجثث. كذلك عامل الاسكندر الكبير أعداءه المهزومين معاملة إنسانية وأمر باحترام النساء، أما الرومان فقد أعلن فلاسفتهم أن الحرب يجب أن لا تحطم روابط القانون واستعاضوا عن الحكمة المأثورة والإنسان ذئب للإنسان. يقول آخر : الإنسان شيء مقدس للإنسان، وقولهم : أنا إنسان، وليس أي شيء في الإنسان غريباً عني وقولهم : الأعداء من جرم وأصبحوا إخوة عوضاً عن القول : ويل للمهزومين. وفي خطوة تالية صاغ الرومان مفهوم الحرب العادلة حين رأى فلاسفتهم عدم شن الحرب دون سيد عادل أي أن لا يكون البادئ في الحرب دفاعاً عن النفس. قال الإمبراطور مارك أوربل : أما انا فبصفتي امبراطوراً وإنساناً، فالعالم كله وطن لي وما هوخير لهذين المجتمعين، يمكن وحده ان يكون خيراً لي. أما ومضة كونفوشيوس الحضارية، فقد كانت ((الغيرية)) التي تكلم عنها، ودعا إليها بسلوك يقوم على التضامن وفعل ((المحبة)) ووصفها بينبوع المصلحة المتبادلة إبان الحروب والعداوات. قال السيد المسيح عليه السلام : طوبى لصناع السلام... أحبوا أعداءكم وإن ننسى فلا ننسى عراقة التراث العربي الذي أكد على مدى التاريخ حرصه على تقاليد الفروسية وعدم قتل الفارس عندما يقع عن فرسه. وفي سيرة عنترة بن شداد التاريخية أنه نازل البطل ربيعة بن زيد، وأثناء ذلك كسر سيف ربيعة فما كان من عنترة إلا أن عوضه سيفاً بدل السيف المكسور، وهنا ترجل ربيعة عن جواده ليشكر عنترة ويقبل رأسه، الأمر الذي جعل الفارسين يتصافحا ويتحولا إلى أبرز صديقين وتتجلى الروعة في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجند المتوجهين إلى قتال العدو: انطلقوا باسم الله تعالى، وعلى بركة رسوله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. وطبعاً فهذا الحديث، قيس من مشكاة الألوهية، قال تعالى: "ويطعمون الطعام على حبة مسكيناً ويتيماً وأسيراً "/الإنسان 8. تحكي لنا الموارد التاريخية أن مرسوماً صدر عن الفرعون المصري سنوسرت الثاني (من الدولة الوسطى 165 ق. م) يمنح بموجبه الأمان وحق اللجوء لمجموعة من الأجانب الآسيويين. وبعد ان فتح عمرو بن العاص مصراً صدر القرار الآتي : هذا ما اعطى عمرو بن العاص أهل مصر الأمان لأنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وجبلهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شيء ولا ينتقص على ما في هذا الكتاب، عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. ولقد اعطى السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون الأمان لملك العرب لأداء فريضة الحج بصحبة زوجته. وإبان الحروب الصليبية دفع الحكام المتحاربون معاهدات وهدن من ذلك الهدنة بين السلطان قلاوون والفرنج. وكان صلاح الدين الأيوبي يحسن معاملة الأسرى ويحض البارزين مهمة بحسن المعيشة وخلع الثياب، لقد أكرم المتقدمين منهم وأخلع على مقدمي عسكر الإفرنسي فروة خاصة وأمر لكل واحد من الباقين بفروة هزجية لأن البراء كان شديداً، وحين كانت المعركة تنتهي باستلام الطرف الآخر كان يطبق شروط الاستسلام بدقة وحين يدفع الأسرى فداءهم يرسل من يحرسهم حتى يصلوا إلى مأمنهم. هذا وسنكتفي بالوقفات السابقة، ومع ذلك فقد أمدتنا هذه الوقفات بالإشراقات التي جعلتنا نستشرف فنستشف الروح الإنسانية وما تنطوي عليه من كرامة وعلياء وسمو.