ما هي درجات البطلان في القانون الإداري، وكيف يكون البطلان في القرار الإداري مقارنة مع القانون الخاص.

مما لا جدال فيه أن لكل بحث رؤيته الخاصة به النابعة من طبيعته الذاتية ، ومن النسب المركوزة به ، على حد قول الفهامه ابن خلدون ، قاصدين بالرؤية هنا المنهج العلمي الذي يقودنا إلى استكناه الظاهرة ، والقبض على جوهرها ومقوماتها الذاتية .
وحقيقة الأمر أن الرؤية السليمة - باعتبارها الطريق الأمثل لمعرفة الحقيقة - تؤصل الظاهرة ، وتبلورها ، هذا فضلاً عن أن الظاهرة - مما تمتلكه من طبيعة ذاتية معينة - هي التي تفرض المنهج الخاص بها ، ومن ثم فكل من الظاهرة ومنهجها ورؤيتها دوره وموقعه وأهميته ، والجدل السليم بين الغاية ووسيلتها ، وارتقاء الوسيلة علواً إلى مصاف غايتها ، هذا الأمر هو الذي يصل بنا إلى شاطئ الموضوع ، ويمكننا قطف من ثماره يانعة ، إذ لا الرؤية تسيق الهدف ، والعكس ، وكل في فلك يسبحون .
أو ل أنظر واستناداً إلى الفلسفة الإسمية السائدة في علم المنطق ، فالاسم كثيراً ما يقودنا إلى المعنى ، وبالتالي ، فإن نظرة بسيطة فاحصة على عنوان البحث تجعلنا نتعامل مع الحقائق الآتية :
أ- إن مجرد قولنا عقداً فهذا يعني أننا حيال التقاء إرادتين متكافئتين تتشادان و تتعارضان، و في الوقت نفسه تسعيان لإقامة التوازن بينهما في نقطة تحقيق المصالح المشتركة.
و بمعنى أوضح ففكرة التعاقد تتحقق بنشوء التزامات متبادلة حيث يلزم ـ بالتبادل ـ كل من طرفي العقد الطرف الأخر، لا فرق في ذلك بين عقود القانون الخاص، و عقود القانون العام .
هكذا يشتبه العقد بكثير من الأعمال القانونية ـ و العلة في ذلك فكرة التقاء المصالح ـ من ذلك اشتباهه بالأعمال القانونية الإتجارية كالأعمال التي تقرر نتائج الانتخابات، حيث لا يظهر الناخبون كأطراف متقابلة يلتزم الواحد منهم قبل الآخر، بل إن إرادتهم تتعاون من أجل الوصول إلى هدف حيث تحد في هذا الغرض من أجل إنشاء أثر قانوني .
و بذلك لا ينسب التصرف القانوني الاتحادي لأي شخص من المشتركين في إيجاده، أو إلى تعبير واحد صادر عن إرادة أي منهم، بل ينشأ الأثر القانوني عن الإرادات المتحدة جميعاً .
ويمكن أن ينشأ العمل الاتحادي في إطار الإدارة العامة، كما في حال ندب موظف، بناء على موافقة الإرادتين على ذلك فهذا الإتفاق لا ينشئ عقداً بسبب عدم وجود التعارض، بل ينشأ عملاً قانونياً اتحاديا .
و الأمر نفسه بالنسبة للقرارات التي تصدر عن المجالس ، فهذه القرارات، و إن كانت تقوم ـ من خلال المداولات : deliberation على المناقشة، و تضارب الرأي، إلاّ أنها تصب في بوتقة واحدة و نتيجة محددة .
ب ـ و جدير بالتنويه أن ما يميز العقد الإداري اتسامه بقسمات معينة من ذلك خضوعه لقيود تشريعيه ـ كتلة الشرعية، كاختيار المتعاقدين، و كون دفاتر الشروط تحرر مقدماً، ثم تمتع الإدارة بسلطات معينة لا يتمتع بها المتعاقد، وغير ذلك من الأمور .
هذا و على الرغم من كل هذه القيود و السمات و الاستثناءات، فذلك لا يغير من طبيعة العقد الإداري، الذي يبقى عقداً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى .
جـ إن نظرية البطلان في العقود الإدارية، لا تعني أنها متطابقة مع نظيرتها في القانون الخاص، و بالمقابل فهي لا تعني الانسلاخ الكامل عنها، بل إن هناك تمفصلاً و تميزاً بين الظاهرتين دون الفصل و الانفصال .
و بيان ذلك أن كثيراً من النظريات القانونية تتغلغل في أكثر من فرع من فروع القانون و مجالاته، لسبب بسيط هو أن تلك النظريات عبر عن فكرة القانون في ذاته .
و عن جوهره و طبيعته الذاتية و ماهيته و صميم داخليته، أي تعبر عن النسب المذكورة في طبائع الأشياء، و هي نسب نجد تحقيقها في القانون الخاص، و غيره من فروع القانون ، و بالتالي فالقانون الإداري عندما يطبق هذه النظريات، فإنما يطبقها ـ أصلة ـ في مجاله الخاص، و هذا ما عبر عنه الفقيه اليونانية ستاسينوبوليس .